top of page
نيروز ... نجم آفل
بقلم - الزهراء المغربية

جلست بالقرب من شرفة الشقّة المطلّة على الحي الرّاقي بالمدينة , تحتسي كأس قهوتها برتابة سئيمة و ملل كئيب , و في نفس الآن تدخن سيجارتها بحنق مكتوم و غيظ دفين .. أخذت ترقب أشعة الشمس التي تنثر خيوطها بعطاء سخيّ فوق كل البيوت : صغيرها و كبيرها , واسعها وضيقها .. لا تفرّق في ذلك بين غنيّ وفقير أو نسب أو منصب .. عدلٌ يتجدد كلّما أشرقت .

مرّ شريط الذكريات أمام عينيها و كأنه لمح برقٍ , عشرون سنة من الشهرة و التّصدر و المال ,, مرّت دون أن يتوقف بها الزّمن للحظة كي تتأمل حالها و تنظر ما فيه , فكانت تركب من سفينة حلم مبهرٍ إلى سفينة  أخرى تُبَلِّغها إلى جزيرة أحلام تسلب منها لبُـــّـها كما ينسلّ الخيط من كبّته في الغزل .. عشرون عاما لم تسمع فيها إلا طيب الكلام و المدح و الثناء , أو إن شئت قُل "نفاق" الكلام الزائف الذي أعجزها عن التفكير في حالها و مآلها .. كانت أينما راحت يشار لها بالبنان , وقلّما صدرت صحيفة أسبوعية دون أن تحظى فيها برُكن يتشدّق بجمال خصالها و إبداعاتها اللامتناهية , و ما أكثر ما تصدّرت صورة الغلاف ..
"كوكب الإبداع" و" نجمة الفن الراقي" … يااااه يا نيروز , كم كنت غافلة عمّا أنت عليه اليوم !!..  أنستك الألقاب حقيقة نفسك , و لعِب المخادعون على الأوتار التي تستميلكِ بِشداها فانغمستِ في بحر أحلامك دون أن تنتبهي لمآلك لاحقا .. جريتِ لاهثة وراء الشهرة و المال , فنعمتِ بالسلطة و السيطرة و المنصب لوقت وجيز و جاء يومُ تخليك راغمةً عن عرشك لتتركيه لأخرى أشدّ جمالا منك و أكثر شبابا , فقد هرمتِ و ما عاد لك بريق الشباب كي تجذبي النفوس الضعيفة . !!!!
جالت ببصرها في أنحاء الغرفة الفسيحة الراقية بما فيها من أثاث جلّه -إن لم يكن كلّه -
منحاً و هدايا  ممّن كانوا لا يفتئون يزورونها , بل و يقضون ليالي طوالاً في السهر و الغناء و الرقص ,, يعبدون ذاك القوام المتراقص على ألحان الشياطين و أهوائها ,,  و مع ذلك كان لها الأمر و النهي و القول الذي لا يخيب , و القرار الذي لا يردّ .. كانت نجمة في الفن و جليسة أهل الثقافة ( المتحضرة ), و منهمُ اختارت من سيكون  زوجاً لها .. زوجٌ في الصورة و الرّسم , لكن ما عرفا طعم حياة زوجية قطعاً وقلّما التقيا في المنزل نهاراً , بل وحتى ليلاً .. فهو الأديب اللامع صاحب القصص و القلم الذهبي , يكتب كلاما بلغة قومٍ استقى منهم نهج حياته وسار عليه , وتطبع بطباعه و نال من معين ثقافتهم الذي لا ينضب, ولَكلمة " حريّة" هي أشد ما جذبه إلى ثقافة حديثة متقدّمة .. حريّة تشبّعت بها مبادئهما معاً , هو وزوجته , و ما نالا منها إلا البعد و الجفاء ..
ومرّت بضع سنين على زواج صوري جافّ ,
انتهى أجله بمداد على الورق كما بدأ , و لم يترك إلا طيفا من الماضي ٍلنيروز, لكن كان لا بدّ من ذلك , فهكذا مجتمعنا يقتضي في فنون الإعلام و الظهور في الشاشات : زوج يربطك بتقاليد المحيط أكثر ممّا ترتبطين به فكرا و قلباً ..
و سرعان ما انهت تدخين
السيجارة الاولى , فانكبّت على الثانية تشغل بها وقتا مريرا يمرّ مثل وقع قطرات الماء على قطعة قصدير ,, ( تك تك تك ..) و بين كل ثانية و اخرى يكمن دهر من المعاناة و الأسى .. بيد أنّها سارعت لتتحلى بقناع من الرضى مع ابتسامة مزيّفة تمحو بها أنين الماضي ,,  و بعد حين , نظرت إلى الساعة مجددا فهمست في نفسها : " اقترب موعد الجمعية الخيرية , لا بد أن أتجهز لأذهب " .. أقبلت على مساحيقها المُجمّلة , تلك الرُّفقة التي لم تفارقها بعد أن أفِل الشباب و علت ملامحها التجاعيد, فأخفت وجها شاحبا خذله الشباب , لتبدو سيدة لا زالت محتفظة بأناقتها و تألقها , و ارتدت ثيابا محافظة تواري عيوب الجسد فتبدو محترِمة لطقوس الجمعية ,,, ثم مضت لتستقل سيارتها , هديّة في آخر عيد ميلاد أيام الشباب .
و هناك , وسط الجمعية الخيرية , صحافةٌ ترصد جديد الحدث و تغطي انشطة المبادرات "الجمعويّة" , تعطي الكلمة لرئيسة المبادرة :
السيدة نيروز  , فافتتحت كلامها :
" مساء الخير .. يشرفني أن أحظى برئاسة هذه الجمعية التي تهتم بالمرأة و حقوقها و تسعى لحمايتها من كل أشكال العنف و القهر ,, "
و جاء في نصٍ من خطابها :

" نريد أن تنال المرأة حريّتها و تتخلّص من تسلط الرّجل و العنف الذي يمارسه عليها , ولذلك أسسنا هذه الجمعية..
و من تجربتي التي عشتها في ميدان الفنّ و الإبداع , سأحاول جاهدة أن نرقى بمستواكنّ إلى سيدات حرّات قويّات , كي نتحرر من العنف و القهر و الجهل ( .....) كما سننظم هنا في جمعيتنا أنشطة حرفيّة كي تساعدكنّ في ضمان دخل يحقق لكن الاستقلالية الماديّة . ( ,,, ) ..
و شكرا لكم "
و تتوالى تصفيقات حارة من نسوة لم يفقهن من الخطاب سوى كلمة "
رجل , عنف , حرفة , دخل " كي يلِجْنَ عالم المعادلة الصعبة التي تدور حولها خطابات التحرر و التي تبدأ معها معاناتهنّ من جديد في عالم مجهول ..
نزلت " نيروز" من المنصة , لتجري لقاءا قصيرا يغطي مسيرة فنّانة  خدمت الفنّ لسنوات و ضحّت من أجله فلم تجد الوقت لحياة زوجية و أولاد ,,

" الحقيقة أن الفنّ الذي مارسته طيلة السنين الماضية شغلني كثيرا , و كنت أبذل قصارى جهدي لأوصل رسالته إلى جمهوري الذي لم يفتر عن تشجيعي ,, هذا الفن يحتاج منّا إلى تضحية سامية , و أنا حاولت أن أوصل رسالتي في الحياة بلغة الفنّ و تعبيراتها ,, فجسدت قيمة " الحب " و " الحرية " و "التفاؤل  " .. إن الحياة جميلة بالفعل, والفنّ الذي مارسته منحني إحساسا بالعطاء و القوة و النجاح... "
و هكذا يعبرُ لسان
قلبٍ مجروح نادم ٍعن ألم ماضيه  بلغةٍ تسبح في بحور الغرابة و لا ترسو على برّ الصدق البتّة ...
و هكذا يتوارى أسف الذكريات و مسيرة الحياة وراء ستار
الرضا الزائف و الفخر الكاذب
فتغدو للألفاظ دلالة تناقض فحواها , و ينطق القلب بعقيدة
لم يؤمن بها قطّ ..
و هكذا تتجدد قافلة
" الفن الرّاقي " كل جيل ,لتؤدي رسالتها في هذه الأرض و تنشر " عبق " قيَمها " الفاضلة " ...
و بينما هذا المركب يسير , لا يملك من في جوفه خافقٌ بالتوحيد نابض إلا أن يصيح :
" يا رب عجّل بفرجك القريب "
 , حتى يأتي الله بالفرج ..

bottom of page