
الحبُّ من قلب الأطلس
بقلم - الزهراء المغربية


كانت النجوم تتلألأ في سماء الأطلس , تطلُّ أضواءها من بين قمم جباله الشامخة الزاهية بثوبها الأبيض و كأنّها العروس يوم زفّتها , و بين كل سفح و آخر تجد بيتا هنا و آخر هنالك , قد فرّقتها المسافات و قرّبها حسنُ الجوار و تآلف القلوب , فجلبتْ دفئا يأنس به أهل القرية في شتاءهم القاسي بزمهريره ..
و على ضوء شمعتهما جلسا يتسامران في تلك الليلة كعادتهما كل ليلةٍ منذ خمسين سنة , و رفيقهما في السّهرة برّاد الشاي بالنعناع . كانت يدُ " توفُوت" منشغلة بحياكة الصّوف , فيما كان " يدر " زوجها جالساً على جلدة الماعز مستندا على وسادته .
- سلمت يداك زوجتي العزيزة , لقد كان عشاء اليوم روعةً .
- حفظك ربي زوجي الحبيب , كان ككلّ عشاء , لكنّ طعم البطاطس جيدٌ , لقد أحسنت بشراءها من السّوق
- لا لا ... ليس الذّوق من البطاطس , إنما هو من حسن صنع يديك . لم أذق أشهى مما تطبخينه بيديك منذ توفّيت أمي رحمها الله .
- رحمها الله . لم تكن في القرية من تجيد الطبخ مثلها ..
- على كلٍّ , فلنصغ للمذياع , لا بدّ أن موعد أخبار اليوم قد حان .
- لا زال على بثّه نصف ساعة , أظنّ أنهم يقدمون برنامج " فسحة" .
- فلنستمع لهذه الفسحة ريثما تبدأ نشرة الأخبار .
ثم طفقا يستمعان للمذياع و كل منهما منشغل بما يروقه , ف "توفوت " لم يبق لها إلا بضع غرز و تنهي الجورب الذي تودّ أن تهديه لزوجها يوم الجمعة , و هو بدوره منكبٌّ على تلميع بندقيّته و ترتيب أغراضها للخروج إلى الصّيد متى سنحت له الفرصة , و من حين لآخر يتبادلان نظرات ودّ و حبٍّ تتخفى وراء الخجل المُسنّ الذي لا زالا ينبضان به .
و علا صوت مذيع البرنامج عبر أثير اذاعة الأطلس و هو يتحدّث عن الاحتفال و الاهداءات بمناسبة ذاك اليوم , و كل من يتصل يطلب أغنية يهديها لحبيبه أو حبيبته في يوم " الحبّ" و المذيع يعقّب و يستقبل التهاني في عيد يرتقبُه الشباب و العشّاق و أهل "الإحساس " ليعيشوا أوقاتاً سعيدة رفقة أحبابهم , يتبادلون الهدايا و الورد الأحمر , مُرتدين لباساً أحمر اللون كشعارٍ للإحتفال.
تبادل الزوجان نظرات استغراب و دهشةٍ علت وجهيهما , تعجّبا أنّ هناك قوما ضاق عليهم الزّمن و الوقت حتّى جعلوا للحبّ يوما في السّنة , و كأنّهم يمنعون قلبهم أن ينبض حبّا طيلة السنة عدا ذاك اليوم !!
بادرت " توفوت " بالسؤال :
- أيتحدّث عن" النّصارى " ؟؟
- ههههههه ,, لا زلت تعيشين في زمن أجدادنا يا عزيزتي .. نصارى و يتحدّثون الأمازيغية ؟؟ !! هم مسلمون لكنّهم صاروا يعيشون مثل الكفّار و يتحدّثون و يلبسون مثلهم , فلمَ لا يحتفلون بأعيادهم أيضا ..
- يلبسون مثلهم ؟؟ و يتحدّثون مثلهم ؟؟ إذا هم منهم و لا شكّ
- ايييه يا توفوت .. أقول لك هم منّا و يعيشون بين ظهرانينا , وأنت لا زلت تعتقدين أنّهم " نصارى"
- اللهم سترك يا ستّار .. العفو يا ربي
- لم يسبق لك أن ذهبت إلى المدينة من قبل , و إلّا لرأيت العجب العُجاب ..
- أصحيح أنّهم يلبسون اليوم اللون الأحمر ؟
- نعم , هذا شعار احتفالهم , على غرار لون القلب و الدّم ..
- اللهم سلّم سلّم ... أفلا يحبّون إلّا في هذا اليوم فقط كي يتهادوا و يشتروا الورود ؟ !!
- و من يدري , لعلّهم لا يجدون وقتاً لذلك . أو بالأحرى يقلّدون "النّصارى" لا غير .
- ايييه ,, صدقت جدّتي رحمها الله , كانت حين ترى فتاة تجالس النّسوة و تتكلّم في مجالسهم تقول " زمن الحياء راح " , فماذا ستقول لو رأت بنات اليوم و أفعالهم المشابهة لــ" النصارى" .. رب ارحمْنا
- ألا ليتَ زمن الحياء يعود .. " ولد النّاس " اليوم يحتار على أي البنات يقبل خاطبا طالبا للزواج , فما عاد لا أدب و لا حياء ..
- " ولد النّاس " لن يضيّعه الله , فأكيد أن "بنات النّاس" لا زلن على هذه الأرض لا ريب ..
و توالى عبر الأثير سيل الإهداءات و الأغاني , فأطفأ الشيخ المذياع و هو يحوقل و يستغرب " متى كان للحبّ عيد ؟ !! "
تطلّع إلى رفيقة دربه , و هي تحيك الجورب , و بسمتها تعلو وجهها المغطّى بالتجاعيد , بيْد أنّها تبدو في عينيه عروسا في ريعان شبابها و جمالها. لا زال يرى فيها الأمل الصّافي و الخلق الطّيّب و حسن العشرة و لين الكلام .
فحُبّه لها لم يتوقفّ ولو لبرهة من الزّمن , ولو في لحظات الغضب , كان يزداد احترامه لها و تزداد أدباً و طيبة .. ليست في النساء مثلك يا توفوت !!
تبادلا نظرات الودّ و الفرح , و هي تهديه الجورب الشّتوي كي يلبسه في صلاة الجمعة , فأخرج من جيبه هو الآخر قارورة عطر اشتراها لها من سوق يوم الأربعاء و نسي أن يهديها إيّاها ..
لتبقى ذكرى الحبّ في قلبيهما أبد الدّهر حتى يُضلّهما عبير المحبّة يوم الجمْع عند مليك مقتدر رحيم...
للأمانة :: الزوجان في القصّة شخصيات مستوحاة من رواية :
" il était une fois un vieux couple heureux "
لمحمد خير الدين